السيدة حفصة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الرابع عشر من دروس سير الصحابيَّات الجليلات رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ، ومع أهل بيت النبي ، ومع نساء النبي ، ومع الزوجة الرابعة، من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام ، وهي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطَّاب .
هي صوامةٌ قوَّامة لوامة ، وارثة الصحيفة الجامعة لكتاب الله عزَّ وجل ، أودعت في بيتها ، هي حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، ولدت قبل البعثة بخمسة أعوام ، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد ثلاث سنوات من الهجرة ، بعد عائشة ، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيها ، وروى عنها أخوها عبد الله بن عمر أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الله اختارني ، واختار لي أصحابي)) .
( من الجامع الصغير : عن " عويمر بن ساعدة " )
وأهل بيت النبي جزءٌ من الدعوة ، فلذلك الزوجة التي اختارها الله لتكون زوجة رسول الله ؛ هذه ستنقل عنه ، وكلام النبي شرع ، النبي مشرعٌ في أقواله ، وفي أفعاله ، وفي إقراره ، فأخطر إنسانٍ في حياته هو الذي يروي عنه ، لأن الذي يُروى عنه شرع نتعبد الله به إلى يوم القيامة .
فلذلك حينما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام امرأةً ، وقد قيل لها إذا دخل عليكِ قولي : "أعوذ بالله منك " ، لم تستعمل عقلها ، لم تفكر فيما تقول ، فلما دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : " أعوذ بالله منك" . على الفور قال : ((الْحَقِي بِأَهْلِكِ)) .
( من صحيح البخاري : عن " السيدة عائشة " )
لماذا ؟ لأنها ستروي عنه ، أين عقلها ؟ أين إدراكها ؟ أين حكمتها؟ أيقال للنبي عليه الصلاة والسلام أعوذ بالله منك !! فلذلك زوجات النبي ينبغي أن يكُن في أعلى مستوى ، لأنهن سينقلن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواله ويتحدثن عن أفعاله وعن إقراره ، وهذا كله شرعٌ نعبد الله به .
فهذه حفصة رضي الله عنها بنت عمر بن الخطاب عملاق الإسلام ، توفيت أول ما بويع معاوية بالخلافة ، أي ولادتها قبل البعثة بخمس سنوات، ووفاتها عند بيعة معاوية بن أبي سفيان، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوجها بعد انقضاء عدتها ، من زوجها المهاجر خُنيس بن حذافة السهمي ، لها زوج ، الذي توفي من آثار جراحةٍ أصابته يوم أُحد ، وكان رضي الله عنه من السابقين في الإسلام ، هاجر إلى أرض الحبشة فراراً بدينه ، وعاد إلى المدينة ، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأييداً له ونصراً ، هذا زوج حفصة السابق .
الحقيقة هذه الصحابية الجليلة كانت زوجةً صالحة ، ولا تنسوا أن الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ، التي إذا نظرت إليها سرَّتك، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك ، ودودةٌ ستِّيرة ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام .
فكانت حفصة زوجةٌ صالحةً للصحابي الجليل ، وأن تكون الزوجة صالحة يكفيها هذا لدخول الجنة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال
(انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله)) .
( من كنز العمال : عن " أسماء بنت يزيد الأنصارية " )
والجهاد كما تعلمون ذروة سنام الإسلام ، فالمرأة التي تتعهد أمر زوجها وأولادها هي امرأةٌ تستحق دخول الجنة ، ودين المرأة يسير إذا صلَّت خمسها ، وصامت شهرها ، وأطاعت زوجها ، وحفظت نفسها ، دخلت جنة ربها .
هذا خُنيس رضي الله عنه من أصحاب الهجرتين ، هاجر إلى الحبشة كما قلت قبل قليل فراراً بدينه ، وهاجر إلى المدينة نصرةً لنبيِّه عليه الصلاة والسلام ، شهد بدراً ، وهؤلاء الذين شهدوا بدراً النبي عليه الصلاة ولسلام أثنى عليهم ثناءً كبيراً .. ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)) .
( من صحيح البخاري : عن " علي " )
لأنهم نصروا هذا الدين ، الإنسان أحياناً إما أن يستفيد من الدين ، وإما أن يُفيد الدين ، إما أن يكون محمولاً ، وإما أن يكون حاملاً ، إما أن يكون إيجابياً ، وإما أن يكون سلبياً ، إما أن يأخذ ، وإما أن يعطي ، هؤلاء الذين يعطون ؛ من وقتهم ، وجهدهم ، ومالهم ، وأرواحهم ، هؤلاء لهم حسابٌ آخر ، هؤلاء الذين يحملون ، هؤلاء الذي يفتحون ، هؤلاء الذين يُعطون كل ما آتاهم الله عز وجل في سبيل نصر هذا الدين ، هؤلاء ليسوا سواءً مع المنتفعين ، فهذا الصحابي الجليل شهد بدراً .
( سورة آل عمران : من آية " 123 " )
ضعاف ، ليس عندهم سلاح ، ولا مال ، ولا تجمُّعات ، لأنهم افتقروا إلى الله عز وجل نصرهم ، ثم شهد أحداً ، فأصابته جراحةٌ توفي على أثرها ، وترك من ورائه زوجةً هي حفصة بنت عمر شابةٌ في ريعان الشباب ، فترمَّلت ولها عشرون عاماً ، وتألم عمر أشد الألم ، الإنسان لا يعرف مكانة الولد ذكراً كان أو أثنى إلا إذا كان أباً ، والله سبحانه وتعالى كأنني أتصور أنه أرادنا أن نعرفه من خلال نظام الأبوَّة ، ما هذا الأب ؟ كله رحمة ، كله حرص ، كله عطف ، كله اهتمام بأولاده ، فالأب أب ، لما توفي زوجها وترمَّلت تألم أشد الألم ، اسأل الآباء : ما الذي يسعدهم ؟ أن يروا أولادهم بخير ، لو أعطيته ملء الدنيا ذهباً لا يساوي أن يكون ابنه قرة عينٍ له .
أحياناً الإنسان يرى أولاده بخير على استقامة ، يرى بناته بخير على تفاهم مع أزواجهم ، هذه الدنيا كلها للأب ، لذلك ربنا عز وجل جعل مكافأة الأب الذي يربي أولاده مكافأةً عجالةً قبل مكافأة الآخرة ..
( سورة الفرقان : من آية " 74 " )
فأحياناً أقول لبعض الآباء : هذا ابنك الصالح ، والله إن أموال الدنيا كلها لا تعدله ، لأنها سيخلفك من بعدك ، وكل أعماله في صحيفتك .
لذلك الإنسان عليه أن يعتني بأولاده عناية لا حدود لها ، لأنهم استمرٌ له ، وأنا أذَكِّر الشباب ، أنا أقف وقفة متأنية ، كل إنسان أحياناً يتفاعل مع الحياة ، في نهاية المطاف يستنبط حقائق ، يستنبط حكم ، يستنبط أشياء مهمة جداً ، لو شققت على صدره يقول لك : لا أتمنى إلا شيئاً واحداً أن أعود شاباً لأستفيد من هذه الخبرات .
الآن إذا شاب في مقتبل عمره سمع من رجل خلاصة تجاربه هذه الحقائق ، شيء ثمين جداً معاناة أربعين سنة تقدم لك في كلمة ، هذه الحكمة ، تجارب إنسانية مكثَّفة جداً ، تستفيد منها ، ففما أوعى الشاب الذي يستفيد من خبرة الشيوخ ، وما أروع الشيخ الذي فيه توقُّد حماس الشباب ، الشاب والشيخ يتكاملان ، أعني بالشيخ الكبير بالسن ، هذا الكبير في السن يملك حكم ، خبرات ، عارك الحياة ، وتفاعل مع الحياة ، واستنبط حقائق ، هي كلمات ، تضغط في كلمات ، لكنها تعبر عن تجارب سنوات وسنوات ، فالشاب الموفق ، إن استمع من إنسان مخلص ، أي أنه خبر الحياة وخبر حقائق الأمور ، افعل كذا ولا تفعل .
أنا أقول لكم : الشاب إذا كان أقبل على الزواج ، لا شيء يسعده في الدنيا كأن تكون زوجته وأولاده قرة عين الله ، وهذا يحتاج إلى جهد كبير .
سيدنا عمر تألَّم أشد الألم ، لأن ابنته في ريعان الشباب ، ترمَّلت ولها عشرون عاماً وأوجعه أن يرى ملامح الترمُّل تغتال شبابه .
والنبي أذاقه الله كل شيء ، أذاقه تطليق بناته ، بنتان من بنات النبي طلقتا بعد البعثة ، أذاقه موت الولد ، أذاقه الهجرة ، فسيدنا عمر أذاقه الله ترمل ابنته ، وأصبح يشعر بانقباضٍ في نفسه كلما رأى ابنته الشابة تعاني من عُزلة الترمل ، لأن هذه المرأة وهذا الرجل صمما على الزواج ، الزوج يسكن إلى زوجته ، والزوجة تسكن إلى زوجها ، يتألفان ، يأنسان ببعضهما ، فلذلك تألم سيدنا عمر ، وهي التي كانت في حياة زوجها تنعُم بالسعادة الزوجية .
بالمناسبة هناك من يتوهَّم أن السعادة الزوجية بالمال ، المودة التي بين الزوجين سبب السعادة الزوجية ، لو أطعمها أخشن الطعام ، لو أسكنها بأصغر بيت ، العبرة أن تكون هناك المودة والحب ، مع الحب يغدو الطعام الخشن طيباً ، ومع الحب يغدو البيت الضيق واسعاً ، ومع النَكَد والبُغض يغدو البيت الكبير كوخاً والطعام الطيب خشناً .
أخذ يفكِّر بعد انقضاء عدتها في أمرها ؛ من سيكون زوجاً لابنته ، الآن معظم الآباء يقلقهم شيءٌ واحد ، أن يكون أبنائهم وبناتهم في حالة طيبة ، فسعيهم لتزويج بناتهم ، وتزويج أولادهم هذا عمل طيِّب ، وكنت أقول لكم : الأبوة الصالحة سبب للجنة ، والبنوة الصالحة سبب للجنة ، والأمومة الصالحة سبب للجنة .
ومرت الأيام متتابعة ، وما من خاطبٍ لها ، أحياناً الإنسان ابنته ، سبعة عشرة ، ثمانية عشر ، تسعة عشر ، عشرون ، واحد وعشرون ، اثنان وعشرون ، أربعة وعشرون ، ستة وعشرون ولا يوجد ولا خاطب ، يصير هناك قلق شديد ، قد يتوهم أنها فاتها قطار الزواج ، ثم يأتي زوجٌ يجبر كسرها ويسكن روعها ويملأها سعادةً ، فالإنسان ليستسلم لأمر الله عز وجل ولا يلِج ، من سيكون زوجاً لابنته ؟
مرت الأيام متتابعة وما من خاطبٍ لها ، وهو غير عالمٍ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذت من اهتمامه ، فأسر إلى أبي بكر الصديق أنه يريد أن يُخَطِّبَها ، على علاقةٍ متينةٍ جداً ، كل الأخ بالمسجد له أخ قريب منه كثير ، قريب من عقليته ، من أخلاقه ، من قيمه ، من متانة إيمانه ، وأنا أتمنى على كل أخ في المسجد أن يؤاخي أخاً في لله ، يتفقده ، يعاونه ، يسأله ، يستشيره ، يأخذ بيده ، يعاونه أحياناً ، الأخ في الله أثمن شيءٍ في الوجود ، والمؤمن لا يعيش وحده في الحياة .
ما من خاطبٍ لها ، وهو غير عالمٍ بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخذت من اهتمامه ، فأسرَّ إلى أبي بكر . علماء النفس يقولون : إذا الإنسان تكلم عن همه يرتاح ، أحد أنواع المعالجات يجلس عالم النفس ، أو الطبيب النفسي إلى المريض يقول : حدثني . لمجرد أن يتكلَّم المريض يرتاح ، فالبوح ـ هذا يسمى بوح ـ إذا الإنسان يثق بشخص وشكا له همه ، وضع سليم جداً حتى إنه قيل : من اشتكى إلى مؤمنٍ فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافرٍ فكأنما اشتكى على الله . إذا الإنسان له صديق حميم، مخلص ، واعي ، كتوم ، وبثه مشكلته يرتاح .
وفي شيء ثاني : الإنسان إذا عانى من مشكلة هو تحت ضغط شديد ، هذا الضغط الشديد يحجب عنه الرؤية الصحيحة ، لو شكا همه لأخ مؤمن، هذا الأخ المؤمن لا يخضع لهذا الضغط الشديد ، رؤيته صحيحة ، فقد يشير عليك موقفاً لا تعرفه أنت ، قد يشير عليك موقف غاب عن ذهنك ، لذلك الله عز وجل أمر النبي وهو سيد الخلق أن يشاور أصحابه ..
( سورة آل عمران : من آية " 159 " )
أنا أقول : أن كل أخٍ من إخواننا أتمنى عليه أن يصطفي من إخوانه واحداً يثق بإخلاصه ، ورجاحة عقله ، وحكمته ، وليبثًّه شكواه ، أحياناً تأتي نصيحة رائعة جداً ، يأتي رأي سديد ، يأتي توجيه ما خطر في باله إطلاقاً ، لذلك الجماعة رحمة والفرقة عذاب ، ((فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَد)) .
( من مسند الإمام أحمد : عن " ابن ربيعة عن أبيه " )
فأنت أحياناً تشتري كتاب بمئة ليرة مثلاً ، هذا الكتاب حتى أولِّف أعتقد أخذ عشر سنوات ، عشر سنوات مطالعة ، وتمحيص ، وتنسيق ، وتنقيح ، وإعادة طبع ، فأنت ألا ترى أن مئة ليرة ليست بشيء أمام جهود عشر سنوات ؟! أما السؤال فبلا ثمن ، إن أنت استشرت الرجال استعرت عقولهم ، إنسان عنده عقل راجح ، حكمة بالغة ، خبرات متراكمة بالحياة اسأله ، والعباقرة دائماً والموفقون في حياتهم يستشيرون ، استشر ، فلذلك ورد عن النبي الكريم أنه : ((ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار)) .
( من الجامع الصغير : عن " أنس " )
الاستخارة لله ، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين ، عوِّد نفسك أستخير الله ، وأستشير أصحاب الخبرة من المؤمنين ، قبل أن أُقدم على أي عمل .
ولما تطاولت الأيام عليه وابنته الشابة الأيم التي يؤلمها الترمُّل عرضها ، نحن في حياتنا عار كبير أنْ يعرض الإنسان ابنته على الزواج ، مع أن سيدنا شعيب قال لسيدنا موسى :
( سورة القصص : من آية " 27 " )
فهذا من السنة ، لكن عاداتنا لا تسمح يذلك ، عادتنا عار أن تعرض ابنتك على شاب ، مباشرةً يتوهَّم أنها كاسدة ، أو فيها عيب ، أو فيها مشكلة ، أما السنة قال له :
( سورة القصص : من آية " 27 " )
فنشأ من تفاعل الإسلام مع التقاليد والعادات والأمم الأخرى ، نشأ عادات وتقاليد جديدة ليست من الإسلام في شيء ، فمثلاً ما قولكم أن تقول امرأةٌ لزوجها : افعل ما تشاء ، ولكن إياك أن تتزوج عليَّ ، تسمح له بالزنا ، ولا تقبل أن يكون لها ضرة ، هل هذه مسلمة بالمعنى الدقيقة ، مرة استمعت إلى برنامج يسألون عالمة في مصر عن رأيها في التعدد ، وهي امرأة ، قالت : ليس لي رأيٌ في هذا إطلاقاً ، لأن الله سمح به ، هذا أقوى جواب .
ولما تطاولت الأيام عليه ، وعلى ابنته الشابة المترملة عرضها على أبي بكر ، فلم يجبه بشيء ، وعرضها على عثمان فقال : (بدا لي اليوم ألا أتزوج) ، فوجد عليهما ـ تألَّم ـ إنسان عرض ابنته على أعز الناس ـ سيدنا الصديق ـ امتنع بأسلوب لطيف ، على سيدنا عثمان قال : (بدا لي اليوم ألا أتزوج) ، فوجد عليهما ، أي حمل عليهما بنفسه ـ تألم ـ ونكسر ، وشكا حاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله عرضت ابنتي على أبي بكر فرفض ، وعلى عثمان فرفض ، فقال النبي الكريم : ((يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ، ويتزوج عثمان من هو خيرٌ من حفصة)) .
كلامٌ بليغ
( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ، ويتزوج عثمان من هو خيرٌ من حفصة)) .
وهو لا يدري ما معني قول النبي ـ ما فهم ـ لما به من همومٍ ابنته ـ ثم خطبها النبي عليه الصلاة والسلام ، فزوجه عمر رضي الله عنه ابنته حفصة ، ونال شرف مصاهرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان يرى أنه قد قارب المنزلة التي بلغها أبو بكر ، صار أبو بكر زوجه ابنته ، وعمر زوجه ابنته ، وهذا شرف لا يدانيه شرف ، أن الإنسان يكون صهرًا للنبي ، أو يكون النبي صهره .
وزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بابنته أم كلثوم ، ألم يقل له : ((يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ، ويتزوج عثمان من هو خيرٌ من حفصة)).
الآن لقي عمر أبا بكر ، تعودوا أيها الإخوة مهما بدا لك الشيء غير معقول ، وفي إساءة ، التمس لأخيك عذراً ، فلما التقى سيدنا عمر بسيدنا أبي بكر اعتذر أبي بكرٍ وقال
لا تجد عليه يا أبا حفصة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر حفصة ، فلم أكن لأُفشي سره ، ولو تركها لتزوجتها) ، لماذا لم يجبه ؟ لأن الرسول ذكر حفصة أمامه ، خاف الأمر لا يتم ، فظل ساكتاً ، غير معقول أن يطلبها ، قال له : " أَكَدَ " .
هذا الشيء مهم بين الإخوة الأكارم ، إذا أنت حملت على أخيك التمس له عذر ، هو موقفه الصحيح يبين لك ، سيدنا عمر عرض ابنته على سيدنا الصديق لم يجبه ، فتألم ، سيدنا الصديق سمع من النبي اللهم صلي عليه أنه يريد الزواج من حفصة ، لكن النبي أسر له سر ، هذا السر لا يفشى ، وأخطر شيء في خطبة ، أخفوا الخطبة وأعلنوا النكاح ، هذه السنة ، فسكت سيدنا الصديق إذا أجابه خان رسول الله ، وإذا أفشى سر النبي أخطأ خطأ كبير ، فسكت ، كم من مرة الإنسان يحمل على أخيه ولو عرف الحقيقة لذاب خجلاً منه ، لذلك النبي علمنا : ((التمس لأخيك عذراً ، ولو سبعين مرة)) .
سبعين مرة التمس له عذر ، مرة قلت لكم : أن سيدنا رسول الله قبل معركة بدر قال : ((لا تقتلوا عمي العباس)) .
فالعباس بمكة ، مشرك ، صحابي جليل فكر ملياً ، هذا عمه ، لأنه تعصب ، فقال : " أحدنا يقتل أباه وأخاه وينهانا عن قتل عمه !! " .
طبعاً أنا ذكرت قصة في خطبة قبل أسبوعين أن سيدنا العباس خلاف ما يتوهَّم البعض ، سيدنا العباس كان مسلماً ، وكان عين النبي ، والدليل لما الحجاج بن علاق السلمي أشاع في مكة أن سيدنا محمد أُسر ، وسيؤتى به إلى مكة ليقتل شلت حركته ، وأرسل إلى الحجاج قائلاً : " إن الله أجل وأكرم من أن يكون هذا الخبر صحيحاً " .
هذا يؤكد إسلامه وهو في مكة ، فلما كُشفت الحقيقة ، سيدنا العباس مسلم ، وكان عين النبي في مكة ، فلو أن النبي قال : إنه أسلم لا تقتلوه ، فيذلك كشفه وانتهى دوره ، لو العباس لم يشارك قريش في المعركة ، كشف نفسه وانتهى دوره ، لو النبي سكت قتل ، لابد من أن يقول النبي : ((لا تقتلوا عمي العباس)) ، من دون أي تفصيل ، التمس له عذر ، يقول هذا الصحابي الجليل : " والله بقيت عشر سنوات وأنا أتصدق رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله " .
أعيدها مرة ثانية : أحياناً تسيء الظن بأخيك ، ثم تنكشف الحقيقة ، تذوب كالشمعة خجلاً من الله ، هو في أعلى درجة من الكمال ، وأنت لا تعرف ، فلا تتسرع .
تحققت فرحة عمر وابنته حفصة ، وبارك الصحابة يد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهي تمتد لتكرِّم عمر بن الخطاب بشرف المصاهرة منه عليه الصلاة والسلام ، ومسحت حفصة آلام الترمُّل ، وجبر الله كسرها ، الله بالتعبير الشائع جبَّار الخواطر .
فقد سمعت قصة : أب عنده خمسة بنات ، يبدو في واحدة لا تصلح أن تكون زوجة ، شكلها أقل مما ينبغي بكثير ، فكأن الأب والأم خططوا أن هذه لكبرتهم ، ولم يتورعوا أن يقولوا لها هذا الكلام لها ، وفي عندها أربع أخوات متزوجات ، هذه الأخت مستحيل أحد يخطبها ، ثم جاءها خاطب بزَّ كل الأصهار ؛ غنى ، وأدب ، ودين ، وأكرمها إكراماً منقطع النظير . فالإنسان أحياناً يقشعر جلده من حكمة الله عز وجل ، هذه الكسيرة جبرها الله عزوجل ، ورد : " أنا مع المنكسرة قلوبهم " ، الحزانى في كنف الله " ، " إن الله يحب كل قلب حزين " ، الحزانى معرضون للرحمة " ، إذا كنت حزينًا فإن الله معك ، إذا كنت مظلومًا فإن الله معك ، إذا كان بين زوجين ، بين شريكين ، بين صديقين شيء فالله مع المظلوم ، ومع الصادق ، ومع البريء ، مع سليم الصدر ، وليس مع الطرف الآخر ، فهذه الفتاة التي لم يتوقع أبوها إطلاقاً أن يأتيها من يتزوجها لدمامةٍ صارخةٍ في شكلها ، وقد تركت لتخدم أمها وأباها ، في المستقبل جاءها أفضل من كل أزواج أخواتها ، قال : كن لِما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، سيدنا موسى قال :
( سورة طه )
ذهب ليأتي بقبسٍ من النار فناجاه الله عز وجل ، لا تعلم أنت أين الخير ؟ قد يأتيك الخير كله من جهة لا تعجبك ، وقد يأتيك الشر كله من جهةٍ هي ملء السمع والبصر ، أنا أقول مُطمئنًا الأزواج جميعاً : زواجك أخطر حدث بحياتك ، وقد اختيرت لك الزوجة بعناية فائقة من الله عز وجل ، وهذه هدية الله لك ، ودائماً وأبداً تلقَّى هذه الهدية بالقبول ، فلعل الله سبحانه وتعالى يهبك منك الخير كثير .
إنسان دخل على زوجته ما أعجبته أبداً فهام على وجهه في المدينة عشرين عاماً من شدة الألم ، عاد بعد هذه المدة ، وصلى في المسجد ، فرأى درس علم وآلاف مؤلفة متحلقين حول شاب ، سأل عنه : قال هذا مالك بن أنس ، الأب اسمه أنس ، هو ابنه من هذه المرأة التي لم تعجبه ، هي حينما رأته تألَّم منها قالت : " يا أبا فلان قد يكون الخير كامناً في الشر" ، أي إذا رأيتني شراً قد يكون الخير كامناً فيه ، أنا أقول لكم أنت عليك أن تستقيم وعلى الله الباقي هو يختار لك أفضل شيء ..
( سورة البقرة )
خطب أحدُهم فتاة فرآها رائعة ، بعد العرس وجد أن رِجلا أطول من رِجل ، لبست ثياب طويلة ، والحذاء متفاوت ، مفصَّل خصوصي فلم يظهر شيء ، والثياب فضفاضة طويلة ، فوافق ، بعد ما اكتشف الأهل أنها عرجاء أقاموا القيامة ، ولم يقعدوها ، أقاموا النكير ، فهذا الشاب قال : واللهِ لا أطلِّقها ، أنا رضيت بها ، وأسكت الجميع ، والله سمعت أن الله آتاه رزقاً يفوق حد الخيال ، وهو من أسعد الناس بها .
الحياة الزوجية لها أسرار ، لها صفات ظاهرة وفيها حقائق ، الصفات الظاهرة ؛ المنزل الواسع ، الدخل الكبير ، الشكل الرائع ، هذه الصفات الظاهرة لكن فيها أسرار ؛ إذا كان هذا البيت رحماني ، سلوك الزوج والزوجة فيما يرضي الله يبتغيان وجه الله عز وجل ، الله عز وجل يتجلى برحمته على هذا البيت فإذا هو جنة على وجه الأرض ، والصفات متواضعة جداً ، وأحياناً الصفات رائعة جداً لكنها جحيم .
حظيت هذه الزوجة الطيبة الطاهرة بالشرف الرفيع الذي حظيت بها سابقتها عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وتبوَّأت المنزلة الكريمة بين أمهات المؤمنين ، وأي شرفٍ أعظم من هذا الشرف أن تكون زوجة سيد الخلق ، دخلت حفصة بيت النبي ثالثة الزوجات في بيوته عليه الصلاة والسلام ، فقد جاءت بعد سودة ، وعائشة ، الثالثة من الأحياء الآن ، أما الرابعة بمجموع الزوجات ؛ السيدة خديجة ، سودة ، عائشة ، حفصة .
السيدة سودة رحبت بها راضية ، لا تنافسها ، تحدثنا عن السيدة سودة، أما عائشة فحارت ماذا تصنع مع هذه الزوجة الشابة ، هذه منافسة؟ أحياناً الإنسان لا يتألم من شخص لا ينافسه ، المشكلة مع من ينافسه ، فالسيدة عائشة بنت أبي بكر وشابة ، والسيدة حفصة بنت عمر وشابة ، وهذه الغيرة أودعها الله في النساء لصالح الأزواج ، لو ما فيها المرأة غيرة لا تحبها ، لا يهمها ، من تريد فخذ ، تكرها ، أما هي حريصةٌ عليك حرصاً جنونياً ، ففي الآن مشكلة .
وقد يقول قائل : لمَ لم تكن زوجات النبي كالدمى في البيت ؟ لكانوا أراحوه ، مثل هذه الدمى ، ولا مشكلة ، ولا طلب ، ولا سؤال ، ولا غيرة، ولا مؤامرة ، لكن شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون بيت النبي كبيت أي مسلم ، فيه مشكلات ، ليقف موقف الكامل ليعلمنا ، فالآن في عندنا مشكلة ؛ هناك زوجتان شابتان ، إحداهما بنت أبي بكر والثانية بنت عمر ، يتنافسان على حب النبي عليه الصلاة والسلام وعلى امتلاك قلبه .
عائشة سكتت أمام هذا الزواج المفاجئ ، من أين أتت هذه الزوجة الآن ؟ فشيء صعب ، ملكت قلب النبي ، فأتت أخرى ونافستها ، وهي التي كانت تضيق بيوم ضرتها سودة ؛ التي ما اكترثت لها كثيراً ، كيف يكون الحال اليوم حينما تقتطع حفصة من أيامها مع رسول الله ثلثها ؟
في واحد جاءت امرأته إلى سيدنا عمر قالت له : (يا أمير المؤمنين إن زوجي صوامٌ قوَّام ، يظهر أنه ما انتبه لها قال : بارك الله لكِ في زوجك ، ما شاء الله !! فقال له سيدنا علي : إنها تشكو زوجها ـ لم تمدحه ـ قال له : ((هكذا فهمت ، إذاً اقض بينهما) ، سيدنا علي لو أن إنسان أخذ أربعة ، لها حق يوم واحد من الأربعة ، فهذا المستغرق في طاعة الله ، وعبادته من حقه ثلاثة أيام لله ، ويوم لهذه الزوجة ، فحكم لها يوماً من أربعة أيام ، فهو حكم رائع جداً .
ثم تضاءلت غيرة عائشة من حفصة لما رأت النساء يتوافدن على بيت النبي زوجاتٍ أخريات ؛ زينب ، وأم سلمة ، جويرية ، وصفية ـ الموضوع ليس له نهاية ـ فلما كثرت الضرات خفَّت عليها مشكلتها من حفصة .
زواج النبي له حكمة كبيرة جداً ؛ هو أبعد ما يكون عن رغبته في المرأة ، لكنه ألَّف قلب عمر من زواجه من حفصة ، ألف قلوب أصحابه الكبار ، وألف القبائل ، وألف الأطراف الأخرى ، فزواجه زواج مصلحة عليه الصلاة والسلام .
لكن عائشة صافتها الود ، حدث غريب ، أن ضرتين متنافستين يتفقان ، سيدنا عمر تنبَّه ، تنبه لهذا التقارب غير المألوف بين المرأة وضرتها ، وجد مؤامرة السيدة عائشة والسيدة حفصة على وفاق ، وعلى وئام ، في محبة ، وتعاون على خلاف المألوف ، فلما شَمَّ عمر من تقاربهما أن من ورائه ما يشبه أن يكون حلفاً داخلياً تجاه تزايد زوجات رسول الله ، أخذ عمر يحذر ابنته من مسايرة صاحبتها ، وليس لها مثل حظها من حب رسول الله ، ولا من مكانتها في قلبه .
فسيدنا عمر أدرك أن السيدة عائشة بنت أحب الناس إليه ، انظر إلى تواضع سيدنا عمر ، لم يخطر في باله أن ينافس سيدنا الصديق ، قال لها مرة : (يا حفصة أين أنتِ من عائشة ، وأين أبوكِ من أبيها ؟) ، لا أنتِ مثلها ، ولا أنا مثل سيدنا الصديق ، فأنتِ لستِ بمستواها ، لو أن تآمرتِ أو اتفقت معها على شيء قد يرضى الله عنها ويغضب عليكِ ، أنت لستِ بمستواها ، قال لها : (يا حفصة أين أنتِ من عائشة ، وأين أبوكِ من أبيها ؟) .
سمع سيدنا عمر يوماً من زوجته أن ابنته حفصة تراجع رسول الله بالكلام ـ أي ترد ـ فمضى إليها غاضباً ، فما إن دخل عليها ، سألها عما قد سمع عنها ، وهي صادقة أجابته بأنه قد حصل ، فعلا صوته عليها بزجرها ، وقال لها : (تعلمين أني أحذركِ عقوبة الله ، وغضب رسوله يا بُنية ، لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها ، وحب رسول الله إياها ، والله لقد علمتِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أنا لطلقك) ، أي أبقاك عنده من أجلي .
هذه الزوجة كانت صاحبة جرأة أدبية ، جريئة ، ومتكلمة ، وفصيحة ، ولو كانت بين يدي رسول الله ، فكلكم يعلم أنه مرفوعة الكلفة بين الزوجين لا يوجد حواجز إطلاقاً ، فالواحد منا يكون خارج بيته له مكانته وشأنه لكن في البيت هو أحد أفراد الأسرة ، العلاقات الحميمة بين الزوجين تذيب الحواجز الضخمة ، ففي مودة ، وفي طمع ، وفي أيام كلمة زائدة أحياناً ، فالنبي لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر .
روى ابن سعدٍ في الطبقات من حديث الحديبية وبيعة الرضوان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عند حفصة أصحابه الذين بايعوه تحت الشجرة ، فقال : ((لا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا)) .
( من صحيح مسلم : عن " جابر بن عبد الله " )
ألم يقل الله :
( سورة الفتح : من آية " 18 " )
فقالت حفصة : " بلى يا رسول الله " فانتهرها ، فتلت عليه الآية الكريمة :
( سورة مريم : من آية " 71 " )
سيدخل الذين بايعوا النبي تحت الشجرة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
( سورة مريم )
فهي مناقشة لطيفة جداً ، لا يكن الرجل جمادًا ، ذكر النبي الحقيقة فقالت له : لكن في آية :
( سورة مريم : من آية " 71 " )
طبعاً تعلمون أن ورود النار غير دخولها ، بحكمةٍ أرادها الله كل مؤمن يمشي على الصراط ، ويرى النار ، ويرى مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً ، كي تتضاعف سعادته في الجنة ، لكن لا يتأثَّر ، ولا بوهجها ، هذا معنى :
( سورة مريم : من آية " 71 " )
فذكرت هذه الآية فرد عليها النبي ، سيدنا عمر عد هذه مراجعة ، هذا تطاول .
حادثة أخرى حصلت مع حفصة كانت سبباً في طلاقها طلاقاً رجعياً، طلقة واحدة ، الحقيقة أن الطلقة الواحدة :
( سورة الطلاق )
قال العلماء : هذه الآية سياقها في سورة الطلاق ، من اتقى الله في تطليق امرأته جعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها ، فالنبي أدبها بطلقة واحدة ، هي عندها جرأة أدبية ، لأنها أفشت سر رسول الله ، أفشت سراً استكتمها إياه رسول الله ـ إحدى النساء في الجاهلية لها وصية رائعة لابنتها ، قالت : يا بنيتي لا تفشي له سراً ، ولا تعصي له أمراً ، إنكِ إن أفشيتِ سره أوغرتِ صدره " ـ فلم يكن بمقدورها كتمانه ، شأنها في ذلك شأن النساء في إخلالهن كتم أسرار أزواجهن .
القصة أن النبي عليها الصلاة والسلام خلا مرة بمارية القبطية في بيت حفصة ، تألَّمت حفصة أشد الألم من هذه الضرة ، لم يتزوجها بعد ، فمارية جاءته هدية من المقوقس ، وبكت أمامه ، فلما بكت أراد النبي أن يسترضيها فقال : ((ألا ترضين أن أحرمها على نفسي فلا أقربها ؟ قالت : بلى ، فحرمها على نفسه ، وقال لها : لا تذكري ذلك لأحد)) .
جاءته مارية من عند المقوقس هديةً له ، فلما رأتها حفصة بكت منها غيرةً حرمها على نفسه ، إرضاءً لها ، وتطيباً لقلبها ، وقال لها : لا تذكري ذلك لأحد ، فرضيت حفصة بذلك ، وسعدت ليلتها بقرب النبي عليه الصلاة والسلام ، حتى إذا أصبحت الغداة لم تستطع كتمان هذا السر ، فنبَّأت بها خليفتها وصفيتها عائشة ، وقالت لها : البارحة جاء عندي النبي صلى الله عليه وسلم ، وبكيت أمامه فحرمها على نفسه ، فأنزل الله قوله الكريم معلماً ومرشداً ، وهادياً ومؤدباً لحفصة خاصة وللنساء عامة :
( سورة التحريم )
لم تقدِّر حفصة رضي الله عنها وهي تذيع السر لعائشة عواقب هذا الإفشاء ، فيقال ـ ليس على التأكيد ـ : إنه طلقها طلاقاً رجعياً طلقة واحدة تأديباً لها ، بلغ ذلك عمر ، كما تروي الرواية حسا التراب على وجهه من شدة ألمه ، اسود وجهه أمام رسول الله ، وقال : (وما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها) ، هو اعتبر نفسه حقق مكسبًا كبيرًا جداً بتزويج ابنته من رسول الله ، فصار النبي صهره .
فنزل جبريل عليه السلام من الغدِ على النبي عليه الصلاة والسلام فقال : ((إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً بعمر)) ، لمكانة عمر عند الله .
وفي رواية أخرى أن جبريل قال : ((أرجع حفصة فإنها صوامةٌ قوامة ، وإنها زوجتك في الجنة)) .
والله الواحد إذا كان بلغه جبريل توسَّط ، فهذا شيء يفوق حد الخيال ، انظر كيف كانت صالحة ؟ من السماء : ((إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً بعمر)).
ورواية ثانية : ((أرجع حفصة فإنها صوامةٌ قوامة وإنها زوجتك في الجنة)) .
غيرة المرأة جزء من طبيعتها ، فإذا الإنسان شعر بالبرد هل نؤاخذه ؟ طبيعي ، الدنيا شتاء ، والجو بارد جداً ، فبرد ، إذا شعر بالحر هل نؤاخذه؟ غيرة المرأة طبيعيٌ جداً ، شعورها بالبرد والحر كغيرتها .
بعد هذا الحادث اعتزل النبي نساءه شهرًا ، وأدَّبهن ، وهنا تعليق لطيف بالمعنى ، يقول لك : هي هجرتني ، ولم أهجرها أنا ؟ فأنت إذا لم يكن عندك قدرة أن تتحمل البعد عنها ، فمعنى ذلك أنك انتهيت ، أنت لست أهلاً لقيادة المركب ، فالمفروض أن يكون للإنسان قوة شخصية ، إن أراد أن يؤدِّب زوجته أن يصبر على فراقها أمداً طويلاً ، كي تشعر أنها بحاجته ، أما إذا شعرت أنه بحاجتها فهذه طامة !!
اعتزل نساءه شهراً ، وشاع الخبر أن النبي طلق نساءه ، ولم يكن أحد من الصحابة يجرؤ على الكلام معه في ذلك ، حتى إن عمر استأذن عدة مرات ليدخل عليه ، فلم يؤذن له ، فذهب مسرعاً إلى بيت ابنته حفصة فوجدها تبكي ، فقال
لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقكِ ، إنه كان قد طلقكِ مرة ، ثم راجعكِ من أجلي ، فإن كان طلقكِ مرة أخرى لا أكلمك أبداً " ، هكذا ورد في السيرة .
ثم ذهب ثالثةً يستأذن النبي ، فأذن له ، فدخل عمر والنبي متكئٌ على حصير قد أثر في جنبه فقال : ((يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع النبي رأسه إلي ، وقال : لا ، فقلت : الله أكبر)) ، النبي له مهابة كبيرة جداً ، فالصحابة الكبار هؤلاء أقرب الناس إليه .. ((أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس)) .
( من الجامع الصغير : عن " جابر " )
ومع ذلك لم يجرؤ أحدٌ أن يسأله ، الله أكبر ، قال سيدنا عمر من شدة فرحه قال : ((أطلقت نساءك ؟ قال : لا ، قال : الله أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله ، إذاً هي قد هلكت " ، هذا كلام سيدنا عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تبسَّم النبي لهذا القول ، وأعجبه ، فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت لها ـ انظر كيف أنه في كل مواقفه يعين رسول الله على ابنته ـ قلت لها : لا يغرنَّك أن كانت جاريتك ـ أي عائشة ـ لأنها كانت أصغر منها هي أوسم وأحب إلى النبي منكِ " ، فتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية . فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ أي أجلس ، فقال : " نعم " ، فجلست فرفعت رأسي في البيت ، والله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر ، فقال : رسول الله ينام على الحصير ... " البيت فارغ ، فراش غرفة ، والله لا أعتقد أن هذا مبالغة ، يمكن أن تكون مساحته مترًا في مترين ، ولا فراش فيه .
لما دخل سيدنا عدي عنده قال : " أعطاني وسادةٍ من أدمٍ محشوةً ليفاً وقال : " اجلس عليها " ، قلت : بل أنت ، قال : بل أنت ، قال : فجلست عليها وجلس هو على الأرض " أي أن في بيته لا يوجد إلا وسادة واحدة .
قال له : " رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير !! فاستوى النبي جالساً وقال : ((أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) .
( من صحيح البخاري : عن " ابن عباس " )
وفي رواية : ((إنها نبوةٌ وليست ملكاً)) .
وفي رواية : ((أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا ؟)) .
فقلت : " استغفر لي يا رسول الله " . هذا الحوار الحميم بين النبي وبين سيدنا عمر .
وكان عليه الصلاة والسلام أقسم ألا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبها الله عز وجل :
( سورة التحريم : من آية " 4 " )
المقصود عائشة وحفصة ..
( سورة التحريم )
هذه الآية لها معنى عميق : من هما هاتان المرأتان حتى أن الله عز وجل هو ، وجبريل ، والملائكة ، وصالح المؤمنين عليهن ، هذه الآية لها معنى أعمق من هذا بكثير ، أي أن أي إنسان فكر يعمل شيء ضد الدين ، ليعرف من هو الطرف الآخر ؛ خالق الكون ، والملائكة ، فإذا سيدنا جبريل رآه النبي ملء الأفق تماماً ، الملائكة شيء مخيف ، عرش ، السيدة بلقيس ، عرش بكامله يأتي من اليمن إلى القدس بثانية ، قبل أن يرتد إليك طرفك ، في إمكانات مع الملائكة شيء عظيم ، ومع الجن ، فإذا الإنسان أراد أن يفكر بشيء يخالف فيه منهج الله عز وجل ، أو أن يعادي الدين ، ليعلم من هو الطرف الثاني .
طبعاً ثم جاءت الآية :
( سورة التحريم )
أيها الإخوة ... بقي أن هذه السيدة حفصة هي ورثت المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه ، وأودع في بيتها ، نظراً لأمانتها ، وحرصها، وفهمها ، وجرأتها ، هذه زوجة النبي عليه الصلاة والسلام .
ملخص هذه القصة : أن الذي جرى في بيت النبي يجري في بيوت المؤمنين ، والنبي وقف الموقف الكامل ، لاحظتم ؛ في شدة ، وفي لين ، وفي رحمة ، وفي عطف، وفي حكمة ، وفي منافسة شريفة ، وفي طباع أنثوية طبيعية ، هذا كله نتعلَّمه في بيت النبي عليه الصلاة والسلام .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا الخير .
والحمد لله رب العالمين
* * *