هناك
جملة من الايات القرآنية يجب الوقوف عندها وامعان النظر في مدلولاتها لانها تشكل في
حقيقة الامر الاساس الذي يدور عليه هذا البحث ، وهذه الايات بحسب ورودها في القرآن
الكريم هي :
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا
يَفْعَلُونَ }يونس
46
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
}الرعد40
{قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُون 93 َرَبِّ فَلَا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{94} وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا
نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ{95} }المؤمنون
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
يُرْجَعُونَ }غافر77
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم
مُّنتَقِمُونَ{41} {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم
مُّقْتَدِرُونَ }الزخرف42
والذي ينظر في هذه الايات يجد أنها تشترك في امر شديد
الوضوح وهو ان الله سبحانه وتعالى سيري محمد صلى الله عليه وسلم اً( ماوعد البشر مؤمنين
أو غير مؤمنين وإن كان سياق الخطاب يجعل غير المؤمنين كثر دخولاً في النص من غيرهم
.
وفي
سبيل أن نقترب اكثر من تفسير هذه الايات لابد الى بعض المسائل لكي تكون ماثلة في
اذهاننا ونحن نحاول فهم(1)هذه الايات .
المسألة
الاولى : كيف ننظر الى الوعد القرآني ؟
واعني
بالوعد القرآني ماوعد الله به في القران الكريم ، فنحن نؤمن ان كل وعد جرى في
القران الكريم فلا يخرج عن كونه قد تحقق بالفعل أو جار في طريقه الى التحقيق قال
تبارك وتعالى ( وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)(التوبة: من
الآية111)
__________
(1)
3. ... اقول فهم ولا اقول تفسير لان المسلم الذي لا يملك الة التفسير لايحق ليفسر
كلام الله لكنه لا يمنع ان يكون له فهم لكلام الله تبارك
وتعالى.
فالله
سبحانه وتعالى إذا وعد أوفى فلا يصح ان يأمر الله عباده بالوفاء بقوله : (
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)(الاسراء: من الآية34) ثم
لا يوفي سبحانه ما وعد به نبيه محمد صلى
الله عليه وسلم ( ، ولا يصح كذلك ان يفي
الانبياء بوعودهم ويسجل الله لهم هذا في القرآن ثم لا يوفي الله بوعده سبحانه
وتعالى ،فقد قص الله تبارك وتعالى علينا قصة ابراهيم مع ابيه وكان من ضمنها قول
الله تعالى على لسان ابراهيم : ( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي
إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) (مريم:47) ونقل الله تبارك وتعالى لنا هذا الوفاء في
في موطن اخر فقال : ( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)
(الشعراء:86) وعلل سبحانه هذا الاستغفار بسبب الوعد السابق بقوله : ( وَمَا كَانَ
اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة:114) اذا فالذي نخرج به من هذه المسألة
ان هذا الوعد الرباني الموجود في الايات الخمس لا بد انه تحقق في حياته ( بقطع
النظر عن ماهية هذاالوعد للاسباب التي قدمناها.
المسالة الثانية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر أن يدعو الله لتحقيق هذا
الوعد:
وهذا
ما امر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
( بقوله تعالى : )قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ) ( المؤمنون 93)
ويجب ان نعرف ان الانبياء هم اكرم
خلق الله على الله سبحانه وتعالى وان دعوتهم مستجابة لكرامتهم على الله سبحانه
.
فهذا
سيدنا نوح حينما دعا ربه ان يهلك الكفار ويبيدهم من وجه الارض جميعا : ( وَقَالَ
نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (نوح:26)
فستجاب الله له على عظم هذه الدعوة واباد الكافرين من على وجه الببسيطة قال تعالى
:كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا
أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا
فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12 القمر)
وهذا سيدنا ابراهيم
دعا ربه قبل اكثرمن اربعة الاف سنة ان يبعث في ذرية اسماعيل نبيا يتلو عليهم ايات
الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ؛ قال تعالى على لسانه( رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129)
:فاستجاب الله لهذه الدعوة بعد اكثر من ثلاثة الاف سنة قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
وقال تعالى 
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)
ولهذا ثبت عن
سدنا محمد صلى الله عليه وسلم ( انه قال :" انا دعوة ابي ابراهيم
"(1)
__________
(1)
4. ... الدرالمنثور للسيوطي 1 / 139 ، للحافظ جلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ ) ط 1
ـ 1365 هـ مطبعة الفتح جدة .
وعيون
الاثر لابن سيد الناس 1 / 50 ،(ت 734 هـ ) مطبعة مؤسسة عز الدين
. وهذا
سيدنا موسى لما رأى عناد فرعون وطغيانه دعا الله ان يقربه من الايمان ساعة لا ينفع
نفس ايمانها ليكون ذلك الايمان حسرة وندامة حينما يفوت الاوان قال تعالى على لسان
موسى عليه السلام وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس:88) فاستجاب الله
لسيدنا موسى وجعل فرعون يتشبث بالايمان بعد ان رأى العذاب الاليم : ( وَجَاوَزْنَا
بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً
وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ
إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
(يونس:90)
فما ظنك بدعوة سيد المرسلين ان يريه الله بعض مايوعدون وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما دعا بدعوة خاصة لنفسه ( . الا ان تستجاب
لسببين ؛
الاول: لكرامة النبي صلى الله
عليه وسلم ( على الله تعالى وان الاستجابة
لذلك واقعة ضمن سنة من سنن الله تبارك وتعالى، ولن تجد لسنة الله تحويلا
.
الثاني : ان قدرة الله لا تحدها حدود لقوله تعالى بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ( : ( وانا على ان نريك ما نعدهم لقادرون) (
المؤمنون /95 ) .
المسألة الثالثة : الاقتران الزمني بين نزول هذه الايات وزمن
حدوث الاسراء والمعراج :
إن
المتتبع لزمن حدوث الاسراء لا يكاد يجد خلافا بين العلماء أنه حدث في العهد المكي ،
فلم يقل احد من العلماء انه حدث بعد الهجرة . هذا اولاً ، وثانياً فان جمهور
العلماء قد نصوا على ان الاسراء قد وقع في السنة الاخيرة من العهد المكي ، كما نقل
ذلك النووي عن الحربي(1)حيث قال:" كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الاول قبل
الهجرة بسنة"(2)، وصرح به ابن كثير عن الزهري انه قال اسري برسول الله( قبل الهجرة
بسنة"(3)وإن كانت هناك اقوال اخرى فأنه لا يلتفت اليها لمخالفتها الشائع المعروف من
تاريخ السيرة .
اذا عرفنا هذا فمن المناسب ايضا أن نعرف ايضاً أن جميع السور
التي وردت فيها هذه البشارات جميعا من السور المقطوع بمكيتها بإستثناء سورة واحدة
اختلف العلماء في الحكم فيها ، فالسور التي اجمع العلماءعلى مكيتها والتي وردت فيها
تلك الايات هي على التوالي ( يونس ، المؤمنون ، غافر ، الزخرف ) أما السور ة التي
أختلف فيها فهي سورة ( الرعد ) قال الدكتور مناع القطان : السور المختلف فيها: اثنا
عشر (12).
وهي: الفاتحة، الرعد، الرحمن، الصف، التغابن، المطففين، القدر،
البينة، الزلزلة، الإخلاص، الفلق، والناس.(4)
__________
(1)
5. ... هو الشيخ الامام الحافظ ابو اسحق ابراهيم بن اسحق بن ابراهيم بشير البغدادي
الحربي صاحب التصانيف ولد سنة ثمان وتسعين ومائة ، كان اماما في العلم رأسا في
الزهد عارفا بالفقه بصيرا بالاحكام حافظا للحديث مميزا للعلة ،( سير اعلام النبلاء
13 /158 ،للامام الذهبي( ت748 هـ ) ،تحقيق شعيب الارنؤوط و حسين اسد ، ط9 ـ 1413 ،
مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
(2) 6. ... ـ شرح النووي على مسلم 2 / 209
(3) 7. ...
ـ البداية والنهاية / ابن كثير 3 / ، 108 للامام الحافظ ابو الفداء اسماعيل بن كثير
الدمشقي ( ت 774 هـ ) ط1 ـ 1408 ، تحقيق علي شير ، دار احياء التراث العربي ـ
بيروت.
(4) 8. ... ـ مباحث في علوم القرآن / مناع
القطان
وهذا
يعني انه لا توجد سورة من ضمن السور التي فيها تلك الايات تاريخ نزولها يمنع من
حملها على ما نريد اثباته في هذا البحث ، وبعبارة أخرى نقول لو كانت هناك سورة
واحدة من هذه السور مقطوع بكونها مدنية لامتنع حمل هذه الايات على البشارة بالاسراء
لكون الاسراء من احداث العهد المكي بالاجماع ،فلما اتحد زمان الاسراء واعهد نزول
هذه الايات زادنا هذا الامر على المضي قدما في سوق الادلة على كون هذه الايات من
المبشرات بحدوث الاسراء .
المسألة
الرابعة : مراجعة اقوال العلماء في توجيههم لهذه الايات :
واعني
بمراجعة اقوال العلماء ان نتعرف على اقوالهم وتوجيهاتهم في تفسير تلك الايات لكي
نقف امام حقيقة ربما تنفعنا في بحثنا هذا ، وهذه الحقيقة مفادها أن علماء
الامة
من المفسرين لم يتفقوا في تفسير هذه الايات بل إختلفوا الى عدة مذاهب ، واختلافهم
هذا يخرجنا من دائرة مخالفة الاجماع ، الامر الذي يشجعنا على التصريح بما نريد قوله
،فلسنا اول من خالف جمهور المفسرين في هذه المسألة وسنحاول في هذه العجالة أن نسلط
الضوء على هذه التفاسير بما يتحقق معه ابراز اهم المذاهب في هذا الباب . وبناء على
ما تقدم يمكن تصنيف اقوال العلماء في توجيهاتهم لهذه الايات الى خمسة مذاهب
:
المذهب الاول:
وقد حمل اصحاب هذا المذهب الوعد الرباني الموجود في هذه الايات على ما وقع في غزوة
بدر من انهزام وانكسار للمشركين، فقد نقل ابو جعفرالنحاس عمن سبقه في تفسير قوله
تعالى : ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) (يونس46)
"قال مجاهد أي وإما نرينك العذاب في حياتك أو نوفينك قبل ذلك فألينا مرجعهم وقال
غيره يريد بقوله تعالى (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ وقعة بدر
والله اعلم )(1).
وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الاية :" (وَإِمَّا
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ) قال المفسرون كانت وقعة بدر مما أراه الله
تعالى في حياته من عذابهم"(2)
وكذلك نحى القرطبي في تفسيره لهذه الايات ، فقال
في تفسيره للاية المعنية ببحثنا من سورة يونس :"ي من إظهار دينك في حياتك، قال
المفسرون كان بعض الذي وعدهم قتل من قتل واسر من اسر ببدر"(3)
وفي سورة الزخرف
في تفسيرقوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ{41}
{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ
}الزخرف42 قال "أو نريك الذي وعدناهم وهو الانتقام منهم في حياتك فانا عليهم
مقتدرون ، قال ابن عباس : قد اراه الله ذلك يوم
بدر.(4)
__________
(1)
9. ... ـ معاني القران للنحاس /3 /297 ، ابو جعفر النحاس ( ت 338 هـ ) تحقيق محمد صلى الله عليه وسلم علي الصابوني ،ط1 ـ 1409 ،جامعة أم القرآن ،
المملكة العربية السعودية.
(2) 10. ... ـ زاد المسير لإبن الجوزي /4 /32 ،لابي
الفرج عبد الرجمن بن الجوزي ( ت 597هـ ) محمد صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن عبدالله،ط1 ـ 1407 ، دار الفكر
بيروت.
(3) 11. ... ـ تفسير القرطبي /6 /348، ابو عبدالله محمد صلى الله عليه وسلم بن أحمد الانصاري القرطبي ( ت 671 هـ )، 1405 ،
دار احياء التراث العربي .
(4) 12. ... ـ تفسير القرطبي 16
/92
ومما
ينبغي ملاحظته على اصحاب هذا المذهب أن ابا جعفر النحاس لم ينسب هذا القول لأحد
بعينه ولم يجعله أول الاقوال بل ذكر رأي مجاهد ثم قال "وقال غيره"
،وكذلك فعل
ابن الجوزي حيث لم ينسبه الى احد بعينه فقال "قال المفسرون"،أما القرطبي فقد نقل
هذا القول بعد ان فسر هذا الوعد بإظهار الدين وتمكينه في الارض ،وهذا يعني انه لا
اجماع بين المفسرين حول معنى هذه الايات بل نستطيع أن نقول اكثر من ذلك وهو ان
تفسير هذا الوعد وحصره في وقعة بدر ليس هو التفسير الراجح أو المقدم عند المفسرين
بدلالة ما ذكرنا انفا.
المذهب الثاني : وحمل أصحاب هذا المذهب الوعد الرباني
الموجود في هذه الايات بما سيقع من إذلال للكافرين في الدنيا ،وما سينزل بهم من
العذاب من دون أن يحصروا ذلك بغزوة بدر
وممن ذهب الى ذلك الامام مجاهد بن
جبر ففي قوله تعالى "وإما نرينك بعض الذي نعدهم"قال رحمه الله "يعني من العذاب في
حياتك يا محمد صلى الله عليه وسلم أو نتوفينك فألينا مرجعهم"(1)
وكذلك وجهها
الامام الطبري فقد جاء عنه في تفسير الاية المعنية في سورة يونس : "وإما نرينك يا
محمد صلى الله عليه وسلم في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك
من العذاب اونتوفينك قبل ان نريك ذلك منهم فالينا مرجعهم"(2)
وكذلك ذهب
الامام ابن كثير في تفير الاية في سورة يونس ، قال رحمه الله تعالى: "يقول تعالى
مخاطبا لرسوله) ( واما نرينك بعض الذي نعدهم) أي ننتقم منهم في حيلتك لتقر عينك
منهم(3).
__________
(1)
13. ... ـ تفسير مجاهد 1 /294 ، مجاهد بن جبر (ت 104 هـ ) تحقيق عبد الرحمن الطاهر
بن محمد صلى الله عليه وسلم السورتي ، منشورات مجمع البحوث الاسلامية ،
اسلام آباد .
(2) 14. ... جامع البيان عن تأويل آي القرآن 11 /157 ، ابو جعفر
محمد صلى الله عليه وسلم بن جرير الطبري ( ت 310 هـ ) توثيق وتخريج صدقي
جميل العطار ، دار الفكر ـ بيروت .
(3) 15. ... ـ تفسير القرآن العظيم 2 / 434 ،
ابو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي ( ت 774 هـ )1412 ـ دار المعرفة ـ
بيروت.
والى
هذا ذهب السيوطي ايضا في تفسيره فقال ( نريك بعض الذي نعدهم) به من العذاب في حياتك
.. ( او نتوفينك ) قبل تعذيبهم .فالينا مرجعهم .(1)
ولم يخج الصابوني في
تفسيره عما تقدم فقال في تفسير الاية من سورة يونس " أي ان اريناك يا محمد صلى الله عليه وسلم عذابهم في الدنيا لتقر عينك منهم فذاك ، وان
توفيناك قبل ذلك فمرجعهم الينا في الاخرة .(2)
المذهب الثالث : وفسر اصحاب
هذا المذهب هذا الوعد باظهار دين الله في حياته ( يقول الطبري في تفسيره للاية في
سورة يونس " قوله تعالى (وإما نرينك ) شرط(بعض ما نعدهم)أي من اظهار دينك في حياتك
.(3)
وقال الامام الشوكاني في تفسيره " والمعنى ظغن حصلت منا الاراءة لك بعض
الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك"(4)
__________
(1)
16. ... ـ تفسير الجلالين / 273 ، جلال الدين المحلي و جلال الدين السيوطي ، دار
المعرفة ـ بيروت.
(2) 17. ... ـ صفوة التفاسير 1 /584، محمد صلى الله عليه وسلم علي الصابوني .
(3) 18. ... ـ تفسير القرطبي
8 / 348 .
(4) 19. ... ـ فتح القدير ( الجامع بين فني الرواية والدراية في
التفسير )2 /449 ، محمد صلى الله عليه وسلم بن علي بن محمد صلى الله عليه وسلم الشوكاني (ت 1255 هـ )عالم الكتب ـ بيروت
.
نقول:
بعد نقل هذه النصوص من من امهات التفاسير يجب ان لا يغيب عن بالنا امر مهم وهو ان
النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله تعالى بالرحمة المرسلة لم يكن
متشوقا الى رؤية عذاب قومه الذين كذبوه حتى يكون عذابهم سببا في أن تقر عينه ( بذلك
بل إنه ( في اشد ساعات الحرج وحينما بعث الله تعالى اليه ملك الجبال يستأذنه في ان
يطبق على مكة الاخشبين ـ وهما الجبلان العظيمان اللذان يحيطان بمكة لم يزد على أن
قال ( " لعل الله يخرج من اصلابهم من يقول لا اله الا الله "(1)فلو كان عذاب قومه (
يقر عينه لأجاب ملك الجبال لما جاء به، وهذا يعني أن ما يريد الله أن يريه لنبيه
محمد صلى الله عليه وسلم ( هو غير عذابهم
. ثم إن هناك مسألة أخرى يمكن ذكرها في هذا المقام وهي : أن جميع الايات التي تحدث
عن هذا الوعد الرباني ، تتحدث عن امر غير مقطوع به من قبل الباري سبحانه ، بل هو
مذكور بصيغة التردد بين امرين ؛ الحدوث وعدمه ، وحمله بعد هذا التردد على هزيمة
المشركين والتمكينلدين الله يتقاطع مع الايات التي جزمت بوقوع الهزيمة للمشركين
،والتمكين لدين الله تبارك وتعالى ،كقوله سبحانه : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45).
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).
وقوله تعالى يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ) (الصف:
.
فإذا كان النصر مقطوعا به في القرآن ، وإذا كان
التمكين مقطوعا به كذلك فإن هذا الامر يقوي في أذهاننا ان يكون الوعد الرباني غير
ما هومقطوع به في هذه الايات وانما هو خاضع لمشيئة الله تبارك وتعالى هو شيء آخر
غير النصر والتمكين وهو ما نحاول معرفته في الصفحات التالية
.
__________
(1)
20. ... ـ صحيح مسلم 5 / 181 . المذهب
الرابع: وذهب أصحاب هذا المذهب الى ان هذه الايات إنما تخص أمة محمد صلى الله عليه وسلم ( وليس المشركين وقد صرح القرطبي بنسبة هذا
الرأي الى الحسن البصري وقتادة ففي تفسير قوله تعالى ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ
فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ{41} {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ }الزخرف42 ) قال : "وقال الحسن وقتادة هي في أهل
الاسلام يريد ما كان بعد النبي صلى الله
عليه وسلم ( من الفتن . و(نذهبن بك ) على
هذا نتوفينك، وقد كان بعد النبي صلى الله
عليه وسلم ( نقمة شديدة فأكرو الله نبيه (
وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي الا
وقد أري النقمة في امته " .(1)
واى هذا المعنى ذهب الطبري وهو يفسر قوله تعالى
في سورة الزخرف ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) : "يقول من امتك أو نريك الذي
وعدناهم من العذاب وانت حي فإنا عليهم مقتدرون ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ( فراجع ربه ،فقال وأي مصيبة أعظم من أن أرى
أمتي يعذب بعضها بعضا؟ وأحي اليه : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) فأعلمه أن أمته لم تخص دون
الامم بالفتنوأنها ستبلى كما بليت الامم، ثم انزل عليه : ( رب إما تريني ما يوعدون
* رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) ( المؤمنون 93 ـ 94 ) فأعاذه الله ولم ير من
أمته إلا الجماعة والالفة والطاعة"(2).
ويمكن أن يوجه الى هذا الرأى
انتقادان :
الاول : ان سياق الايات يجعل الخطاب متجها بصورة واضحة الى المشركين
وتحويله ليكون خطابا لأمة محمد صلى الله
عليه وسلم ( أمر يأباه السياق.
والثاني : أن جميع هذه الايات جاءت في معرض
البشارة والامتنان على النبي صلى الله
عليه وسلم ( وليس في معرض إخباره( عما
سيقع لأمته من الفتن ، وهذا واضح لا يحتاج الى دليل
.
__________
(1)
21. ... ـ تفسير القرطبي 16 /92 .
(2) 22. ... ـ تفسير الطبري 7 / 293
.
المذهب الخامس
: وذهب أصحاب هذا الرأي الى اعتبار النسخ في هذه الايات ، نقل ذلك ابن الجوزي في
نواسخ القرآن ولم ينسبه لأحد بعينه ، قال رحمه الله قوله تعالى : ) وإما نرينك بعض
الذي نعدهم ) زعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف فكأنه ظن أن معناها اتك قتلهم فلعلك
رأيت بعض الذي نعدهم )(1)ثع عقبرحمه الله على هذا الرأي بقوله " وليس هذا بشيء
"(2)
المسألة
الخامسة : محاولة معرفة المراد من الوعد والوعيد عند
الاطلاق
لا شك
أن من الوسائل المتفق عليها في تفسير أي مفردة قرآنية من حيث الاصطلاح أن يرجع الى
القرآن الكريم نفسه إن كان لها وجود في مكان آخر وأن لا تصرف عن ظاهرها الا اذا كان
هناك مانع من شرع أو عقل يمنع من حملها على ذلك الظاهر، ولكي نتعرف على مظنة مراد
الله تبارك وتعالى من الوعد المذكور في الايات الخمسة آنفة الذكر لا بد لنا من
الرجوع الى القرآن الكريم عما اذا كان قد فسر الوعد الذي أجمله في هذه الايات ، إذ
من القواعد أن المجمل يحمل على المفصل ،كما أن المطلق يحمل على المقيد ، والعام
يحمل على الخاص .
في الايات الخمس التي هي محور بحثنا هناك جملة تتكرر فيهن
جميعا وهي قوله تعالى ( نريك مانعدهم ) من دون أن يفسر هذا الوعد في هذه المواطن
كلها ، لذا فهو يعد من المجمل الذي يفسره ما فصل في موطن آخر إن وجد ، فهل ورد
تفصيل في القرآن لما وعد الله به عباده في غير هذه المواطن الخمسة؟ ، الجواب على
ذلك ؛نعم فقد صرح القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدا ، انه وعد عباده المؤمنين
بالجنة ونعيمها ، ووعد عباده الكافرين بالنار وعذابها ، وهذا أمر لا يحتاج الى عناء
من أجل إثباته ، ونكتفي للتدليل عليه ببضع آيات :
اولا : الايات التي تصرح
بحقيقة ما وعد الله عباده المؤمنين :
__________
(1)
23. ... ـ نواسخ القران 18 ،جمال الدين ابو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 597 هـ
) دار الكتب العلمية ـ بيروت .
(2) 24. ... ـ المصدر السابق
18.
كقوله
تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ
حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء:122) .
وقوله تعالى :
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة:9). وقوله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:72).
وقوله تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ)
(الزمر:20). وقوله تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ
أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10) وأجمع المفسرون على أن الحسنى هنا هي
الجنة(1).
السبت أغسطس 11, 2012 10:32 am
