منتديات بستان العارفين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات بستان العارفين

منتدى اسلامى
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم {اَللَهُ لا إِلَهَ إلا هو اَلحي ُ القَيَوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوْمٌ لَّهُ مَا فيِِ السَمَاوَاتِ وَمَا في اَلأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ ِوَمَا خَلْفَهم وَلا َيُحِيطُونَ بشَيءٍ مِنْ علمِهِ إِلاَ بِمَا شَآء وَسعَ كُرْسِيُّهُ السَمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلاَ يَؤُدُه حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَليُّ العَظِيمُ

 

 إجلاء يهود بني النضير

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ebrehim
Admin
ebrehim


عدد المساهمات : 1170
تاريخ التسجيل : 18/03/2011

إجلاء يهود بني النضير Empty
مُساهمةموضوع: إجلاء يهود بني النضير   إجلاء يهود بني النضير Emptyالأحد أغسطس 05, 2012 1:45 pm

إجلاء يهود بني النضير

أصاب يهود المدينة، الخوف والرعب، طيلة الفترة التي تفصل بين مقتل كعب بن الأشرف، وبين معركة أحد التي جرت في شوال عام 3هـ، ولكن الهزيمة التي حلت بالمسلمين في تلك المعركة، أحيت في نفوس المشركين والمنافقين الأمل من جديد، بتحقيق مطامعهم وأغراضهم، وأزالت من قلوب اليهود الهلع على المصير، ومما ساهم في تبديد هذا الهلع عندهم مقتل أصحاب الرجيع، وبئر معونة, وبذلك لم يدم خوف اليهود طويلا وعادوا إلى أساليب الدس والمكر والخداع، وشرعوا في حشد حصونهم بالسلاح والعتاد للانقضاض على المسلمين ودولتهم, ثم صمموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم والغدر به[1].

أولاً: تاريخ الغزوة وأسبابها:

أ- تاريخ الغزوة:

يرى المحققون من المؤرخين أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وَهْم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أُحُدٍ والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية[2].

وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أُحُد[3]. وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير[4].

ب- أسباب الغزوة:

هناك مجموعة من الأسباب حملت النبي صلى الله عليه وسلم على غزوة بني النضير وإجلائهم من أهمها:

1- نَقْض بني النضير عهودهم التي تحتم عليهم ألا يؤووا عدوًا للمسلمين، ولم يكتفوا بهذا النقض، بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة.

وقد حصل ذلك في غزوة السويق[5] حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مائتي راكب قاصدًا المدينة قام سيد بني النضير سلام بن مشكم بالوقوف معه وضيافته وأبطن له خبر الناس، ولم تكن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك[6].

قال موسى بن عقبة صاحب المغازي: كانت بنو النضير قد دسوا إلى قريش وحصونهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلوهم على العورة[7].

2- محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامرين اللذين ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما؛ وذلك تنفيذا للعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر من عقود وأحلاف.

استقبل بنو النضير النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه صلى الله عليه وسلم، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان برعاية الله وحفظه أدرك مقاصد بني النضير، إذ جاءه الخبر من السماء بما عزموا عليه من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل[8].

لم تكن مؤامرة بني النضير، التي أفشلها الله سبحانه وتعالى تستهدف شخص النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كانت تستهدف كذلك دولة المدينة والدعوة الإسلامية برمتها؛ لذا صمم محمد صلى الله عليه وسلم على محاربة بني النضير، الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم[9].

هذه الأسباب وغيرها أدت إلى غزوة بني النضير، وقد ذكَّر القرآن الكريم المؤمنين بهذه النعمة الجليلة وكيف نجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من مكر يهود بني النضير, قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة: 11].

وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها:

أخرج الطبري عن أبي زياد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ليستعينهم في عقل أصحابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: «أعينوني في عقل أصابني» فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتظرون وجاء رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال لأصحابه: لا ترون أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا. فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاء جبريل عليه السلام فأقامه من ثم, فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به[10].

وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد[11] أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك أن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار، واجتمعوا عنده أن يلقي الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تماروا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية[12].

وقد رجَّح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به ورسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود النضير همت به من قتله وقتل من معه, يوم سار إليهم في الدية التي تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية، وإنما قلنا بالصحة في تأويل ذلك؛ لأن الله عقب ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها وقبيح فعالها، وخيانتها ربها وأنبياءها[13].

وقد وافق الدكتور محمد آل عابد ترجيح الطبري، وقال: لا مانع أن تكون الآية الكريمة نزلت بعد تلك الحوادث مجتمعة، فقد تعددت الحوادث والمنزل واحد، كما قال العلماء[14].

ومعنى الآية الكريمة: أي اذكروا نعمة الله عليكم، التي من أكبر مظاهرها كفه عنكم أيدي اليهود الذين هموا أن يمدوا أيديهم بالسوء إلى نبيكم، وشارفوا أن ينفذوا مؤامرتهم الخبيثة، ولكن الله أحبط مكرهم ونجى نبيكم صلى الله عليه وسلم من شرورهم. ثم أمر –سبحانه- بتقواه والتوكل عليه, فقال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .

أي اتقوا الله -أيها المؤمنون- في رعاية حقوق نعمته، ولا تخلوا بشكرها, فقد أراكم قدرته، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بكم، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون[15].

ثانيًا: إنذار بني النضير بالجلاء وحصارهم:

أ- إنذار بني النضير: سجلت معظم كتب السيرة النبوية خبر إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وقد أرسل صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إليهم، وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي بعد منكم ضربت عنقه»[16]، ولم يجدوا جوابًا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس, فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، فقالوا: نتحمل, فمكثوا أياما يعدون العدة للرحيل[17]. وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول من يقول لهم: اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم[18], ولا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا, فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم[19]. فعادت لليهود بعض ثقتهم وتشجع كبيرهم حيي بن أخطب وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم جدي بن أخطب يقول له: إنا لن نريم -أي لن نبرح- دارنا فاصنع ما بدا لك، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّر المسلمون معه، وقال: «حاربت يهود» [20].

ب- ضرب الحصار وإجلاؤهم: وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم، وضربت عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة. وأمر صلى الله عليه وسلم بحرق نخيلهم، وقضى بذلك على أسباب تعلقهم بأموالهم وزروعهم, وضعفت حماستهم للقتال، وجزعوا وتصايحوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يفعله, فما بال قطع النخيل وتخريبها؟ وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودب اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أبي وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرًا أو يدفعوا عنهم شرًا, فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم. فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال لهم: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة - وهي الدروع والسلاح- فرضوا بذلك»[21]. ونقض اليهود سقف بيوتهم وعمدها وجدرانها لكي لا ينتفع منها المسلمون. وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءًا ذهبًا وفضة، وكان يقول: هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل[22]. وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم, حتى لا يشمت بهم المسلمون, فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام[23].

وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة، بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم[24]. وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها[25].

ثالثا: الدروس والعبر في هذه الغزوة:

تحدث القرآن الكريم عن غزوة بني النضير في سورة كاملة وهي سورة الحشر، وقد سمى حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- سورة الحشر بسورة بني النضير، ففي البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر، قال: سورة بني النضير[26].

وقد بينت هذه السورة ملابسات هذه الغزوة، وفصلت القول فيها، وبينت أحكام الفيء, ومن هم المستحقون له؟ وأوضحت موقف المنافقين من اليهود، كما كشفت عن حقائق نفسيات اليهود، وضربت الأمثال لعلاقة المنافقين باليهود، وفي أثناء الحديث عن الغزوة وجه سبحانه خطابه إلى المؤمنين وأمرهم بتقواه وحذرهم من معصيته، ثم تحدث سبحانه عن القرآن الكريم، وأسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى بالأحداث على التوحيد وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة. وبالتأمل في السورة يمكننا استخراج بعض الدروس والعبر من أهمها:

أ- الثناء على الله وتمجيده: ابتدأت السورة بالثناء على الله، وأن الكون كله بجميع ما فيه من مخلوقات من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، ينزه الله ويمجده ويشهد بوحدانيته وقدرته وجلاله, وناطق بعظمته وسلطانه[27]. قال تعالى: سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 1].

كان استفتاح هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض، تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لعظمته؛ لأنه العزيز، الذي قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه عسير.

الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل إلا ما هو مقتض حكمته، ومن ذلك نصره لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب، من بني النضير حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم، التي ألفوها وأحبوها[28].

ب- الرعب جند من جند الله: قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ? وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 2-4].

إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يتبين له أن الله هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم إلى الشام، حيث أول الحشر في حين أن كل الأسباب المادية معهم حتى اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يخرجهم من حصونهم لمتانتها وقوتها.

لكن الله فاجأهم من حيث لم يحتسبوا, جاءهم من قلوبهم التي لم يتوقعوا أنهم يهزمون بها, فقذف فيها الرعب فإذا بهم يهدمون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وهذا الأسلوب القرآني الفريد يربي الأمة بالأحداث والوقائع, وهو يختلف تماما عن طريقة أهل السير، ويمتاز بأنه يكشف الحقائق ويوضح الخفايا، ويربط الأحداث بفاعلها الحقيقي وهو رب العالمين، ومن ذلك أنها بينت أن الذي أخرج بني النضير هو الله جل جلاله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .

واستمرت الآية الكريمة تبين أن يهود بني النضير حسبوا كل شيء وأحاطوا بجميع الأسباب الأرضية، لكن جاءتهم الهزيمة من مكان اطمأنوا إليه وهو أنفسهم, فإذا الرعب يأتي من داخلهم، فإذا بهم ينهارون في أسرع لحظة، لذلك يجب على كل إنسان عاقل أن يعتبر بهذه الغزوة، وأن يعرف أن الله هو المتصرف في الأمور، وأنه لا تقف أمام قدرته العظيمة لا الأسباب ولا المسببات، فهو القادر على كل شيء، فعلى الناس أن يؤمنوا به تعالى ويصلحوا أمرهم، فإذا اتبعوا أمر الله أصلح الله لهم كل شيء، وأخرج أعداءهم من حيث لم يحتسبوا.

إن هذه الغزوة درسٌ للأمة في جميع عصورها تذكرهم أن طريق النصر قريب وهو الرجوع إلى الله والاعتماد عليه والتسليم لشريعته، وتقديره حق قدره، فإذا عرف ذلك المؤمنون نصرهم الله ولو كان عدوهم قويًا وكثيرًا, فإن الله لا يعجزه شيء، وأقرب شاهد واقعي لذلك هو إجلاء بني النضير, وهي عبرة فليُعتبر بها، والسعيد من اعتبر بغيره.

ثم أوضح سبحانه أنه لو لم يعاقبهم بالجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل, أما في الآخرة فلهم عذاب النار[29].

ج- تخريب ممتلكات الأعداء: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه وحاصر بني النضير تحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه, فما بال قطع النخل وتحريقها؟[30] فأنزل الله عز وجل: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [31] وقد توسع الشيخ محمد أبو زهرة في شرح هذه الآية فقال ما ملخصه بعد أن ساق آراء الفقهاء في ذلك: والذي ننتهي إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه:

1- أن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء؛ لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم وبذلك وردت الآثار.

2- أنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لا مناص منها كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين, فإنه لا مناص من قطع الأشجار وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا وفي حصن ثقيف.

3- أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقلع يجب أن يخرج على أساس هذه الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس الشعب, إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا[32].

د- تطوير السياسة المالية للدولة الإسلامية: بيَّن سبحانه وتعالى حكم الأموال التي أخذها المسلمون من بني النضير بعد أن تم إجلاؤهم, فقال تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر: 6].

وبيَّن سبحانه وتعالى أن الأموال التي عادت إلى المسلمين من بني النضير قد تفضل بها عليهم بدون قتال شديد؛ وذلك لأن المسلمين مشوا إلى أعدائهم ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً وافتتحها صلى الله عليه وسلم صلحًا، وأجلاهم، وأخذ أموالهم ووضعها حيث أمره الله، فقد كانت أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله[33].

ثم بيَّن المولى عز وجل أحكام الفيء في قرى الكفار عامة, فقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8].

فكانت هذه الغنيمة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا تصرف فيه -أي الفيء- كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات.

ولما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، دعا ثابت بن قيس فقال: «ادع لي قومك»، قال ثابت: الخزرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كلها» فدعا له الأوس والخزرج.

فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم».

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله، بل نقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا, وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله[34].

وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا، غير أبي دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما[35]، ومع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الفيء كان خاصًّا له إلا أنه جمع الأنصار وسألهم عن قسمة الأموال لتطييب نفوسهم, وهذا من الهدي النبوي الكريم في سياسة الأمور. وكانت الغاية من هذا التوزيع تخفيف العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دور بني النضير، وأعيدت دور الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين مما يمكن أن يقال فيه: إن الأزمة قد بدأت بالانفراج[36].

إن قسمة أموال بني النضير أوجدت تطورًا كبيرًا في السياسة المالية للدولة الإسلامية, فقد كانت الغنائم الحربية قبل هذه الغزوة تقسم بين المحاربين بعد أن تأخذ الدولة الإسلامية خمسها لتصرف في مصارف معينة حددها القرآن الكريم، وبعد غزوة بني النضير، أصبحت هناك سياسة مالية جديدة فيما يتعلق بالغنائم، وخلاصتها: أن الغنائم الحربية أصبحت حسب السياسة الجديدة على نوعين:

1- غنائم استولى عليها المجاهدون بحد سيوفهم، وهذه الغنائم تقسم بين المجاهدين بعد أن تأخذ الدولة خمسها لتصرفه في مصارفه الخاصة.

2- غنائم يوقعها الله بأيدي المجاهدين دون قتال، وهذا النوع يختص رئيس الدولة الإسلامية بالتصرف فيه حسب ما يرى المصلحة في ذلك، يعالج به الأوضاع الاقتصادية في البلاد؛ فينقذ الفقراء من فقرهم، أو يشتري به سلاحًا، أو يبني به مدينة أو يصلح به طرقا أو... وهذا يعني أنه قد أصبح لرئيس الدولة الإسلامية ميزانية خاصة يتصرف فيها تصرفًا سريعًا حسب مقتضيات المصلحة[37]، وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسًا دون آخرين العلة في ذلك في قوله تعالى: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]. أي لكي لا يكون تداول المال محصورًا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط, والتعليل لهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ، وأن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبغي من ورائه إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.

ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات, لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش قد يتفاوتون في الرزق، ولكنهم جميعًا مكتفون وليس فيهم كَلٌّ على آخر، وإن كانوا جميعًا يتعاونون[38]. وبعد بيان العلة في توزيع أموال الفيء عقب سبحانه بأمر المسلمين بأن يأخذوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، وأن هذا من لوازم الإيمان، وأمرهم بالتقوى، فإن عقابه شديد وأليم للعصاة. قال تعالى: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]. أي: ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وفساد. وقوله: وَاتَّقُوا اللهَ خافوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وقوله: إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أي فإن عقابه أليم وعذابه شديد لمن عصاه وخالف ما أمره به، قال المفسرون: والآية وإن نزلت في أموال الفيء إلا أنها عامة في كل ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه من واجب, أو مندوب، أو مستحب, أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره[39]. وقد جاءت آيات كثيرة تربي الأمة على وجوب الانقياد لحكم الله تعالى، ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك في كل الأمور, قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم, فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم, واختلافهم على أنبيائهم»[40].

هـ- فضل المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان:

1- فضل المهاجرين: بينت الآيات الكريمة في سورة الحشر فضل المهاجرين على غيرهم، فهم لهم الدرجة الأولى، فقد اشتملت الآيات على أوصافهم الجميلة, وشهد الله لهم بالصدق, قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8].

2- فضل الأنصار: فقد وضحت الآيات فضل الأنصار، وقد وصفهم الله بهذه الصفات, قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].

3- فضل التابعين لهم بإحسان: وهم المتتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون في السر والعلانية لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان[41], قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. وهكذا تحدثت السورة الكريمة عن صور مشرقة للمهاجرين، والأنصار, والتابعين لهم بإحسان.

و- موقف المنافقين في المدينة: بينت الآيات الكريمة حالة المنافقين، ووضحت موقفهم وتحالفهم مع إخوانهم من اليهود، وكشفت أيضا موقفهم من المسلمين، وموقف اليهود ونفسياتهم[42], قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر: 11].

يخبرنا المولى عز وجل عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم بمناصرتهم، وقوله: لإِخْوَانِهِمُ أي الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر, وهم يهود بني النضير، وجعلهم إخوانًا له لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم، فهم إخوان في الكفر.

ز- تحريم الخمر: حرمت الخمر ليالي حصار بني النضير[43] في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة[44]، وقد خضع تحريم الخمر لسنة التدرج، وكان ذلك التحريم على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي, حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة، وفي ختامها فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ [المائدة: 91] قال المؤمنون في قوة وتصميم: قد انتهينا يا رب[45].وفي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 219].

يقول سيد قطب رحمه الله: وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم, فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرًّا خالصًا, فالخير يلتبس بالشر، والشر يلتبس بالخير في هذه الأرض، ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.

هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامية القرآنية الربانية الحكيمة, وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته، ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر, عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسمًا منذ اللحظة الأولى. ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعبادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعة التي تيسر التنفيذ والطاعة, فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك أمضى أمره منذ اللحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق؛ لأن المسألة هنا مسألة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.

فأما الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وألفة، والعادة تحتاج إلى علاج، فبدأ بتحريك الوجدان الديني المنطقي التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع, وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 43]. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة، وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترة حد العادة، أمكن التغلب عليها، حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الجازم الأخير لتحريم الخمر والميسر[46]. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ [المائدة: 91].

ح- لا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله: كان مكر اليهود، وتآمرهم على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية في غاية الخسة والوضاعة، وكانوا يريدون من مكرهم وغدرهم عزة ورفعة ومجدًا، وغلبة, لكن الله سخر منهم، ونجى رسوله والمسلمين من مكرهم وأذلهم وأخزاهم، فزال مجدهم، وكسر غلبتهم، وخرب بيوتهم، ورحلهم عن ديارهم، ولم يكلف ذلك المسلمين اصطدامًا مسلحًا، ولا قتالاً ضاريًا، ولكن الله قذف في قلوبهم الرعب والفزع, فطلبوا النجاة بأرواحهم في ذلة وخزي، مخلفين وراءهم ثروة وملكًا، حازه المسلمون غنيمة باردة, وقد قال تعالى في شأنهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ [الحشر: 2].

هذه عاقبة المكر السيئ، والغدر المشين، وانظر بعد ذلك كيف أشار القرآن الكريم إلى مواطن العبرة في هذه الموقعة، وإلى هذا التهديد الذي أعلنه لكل من يسلك سبيل المكر المزري، والحقد المستبد[47] وقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ [الحشر: 2].

ويظهر لي من الآية الكريمة الاعتبار من وجوه:

1- إن الذي يقف في وجه الحق، ويصد الناس عنه، ويطارد دعاة الحق
منهزم لا محالة، قال تعالى: قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ .

2- الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف وباق حتى يرث الله الأرض وما عليها، وستكون للباطل جولات وللحق جولات, ولكن العاقبة لأهل الحق في نهاية المطاف.

3- الاعتبار يكون بتجنب ما ارتكبه اليهود من خيانة وغدر حتى لا يحدث نفس المصير الذي حدث لهم من الهزيمة والذل والهوان[48].

طـ- لا إكراه في الدين: كان في بني النضير أناس من أبناء الأنصار قد تهودوا بسبب تربيتهم بين ظهراني اليهود, فأراد أهلوهم المسلمون منعهم من الرحيل معهم. فأنزل الله عز وجل: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 256].

روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عباس t قال: كانت المرأة تكون مقلاة[49] فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّدَه، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا, فأنزل الله عز وجل: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] [50].

* * *





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص188، 189.

([2]) انظر: زاد المعاد (3/249). (3) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/1765).



([4]) انظر: حديث القرآن عن الغزوات (1/254).

([5]) غزوة السويق كانت بعد بدر وقد تحدثت عنها.

([6]) انظر: تاريخ الطبري (2/284). (2) انظر: فتح الباري (7/332).



([8]) انظر: الواقدي (1/365) التاريخ السياسي والعسكري، ص190.

([9]) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، ص190.

([10]) انظر: تفسير ابن جرير (6/144، 145).

([11]) هذه الآثار وإن كان فيها ضعف يمكن أن تعضد لتصبح بمجموعها صالحة للاحتجاج بها. انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص145.

([12]) انظر: تفسير ابن كثير (2/31). (4) انظر: تفسير الطبري (6/144، 145).



([14]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/251).

([15]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/252).

([16]) انظر: طبقات ابن سعد الكبرى (2/57), مغازي الواقدي (1/363- 370).

([17]) انظر: تاريخ الطبري (2/552). (4) انظر: سيرة ابن هشام (3/212).



([19]) انظر: تاريخ الطبري (2/553). (6) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/146).



([21]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/257).

([22]) انظر: السيرة الحلبية (2/566).

([23]) انظر: السيرة الحلبية (2/565), حديث القرآن الكريم (1/257).

([24]) انظر: المغازي للواقدي (1/374)، اليهود في السنة المطهرة (1/321).

([25]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/212).

([26]) البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بن النضير رقم 4029.

([27]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/327).

([28]) انظر: تفسير السعدي (3/327).

([29]) انظر: حديث القرآن الكريم (1/270، 271). (2) المصدر نفسه (1/274).



([31]) انظر: تفسير الطبري (28/34).

([32]) انظر: خاتم النبيين للشيخ محمد أبو زهرة (2/265- 269).

([33],2) مسلم، كتاب الجهاد باب حكم الفيء (3/1376) رقم 1757.

(3) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (3/86). (4) انظر: السيرة النبوية لصالح الشامي ص222.





([37]) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص169.

([38]) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص194.

([39]) انظر: تفسير الرازي (29/28), صفوة التفاسير (3/351).

([40]) مسلم،كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله (4/1830).

([41]) انظر: حديث القرآن الكريم (1/291).

([42]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/264).

([43]) المصدر نفسه (1/253).

([44]) انظر تفسير القرطبي (18/10).

([45]) انظر: الخصائص العامة للإسلام، للقرضاوي، ص181.

([46]) انظر: في ظلال القرآن (1/229).

([47]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص167، 168.

([48]) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، ص179.

([49]) المقلاة: التي لا يعيش لها ولد، سنن أبي داود (3/133).

([50]) أبو داود، كتاب الجهاد، باب الأسير يكره على الإسلام (3/132) رقم 2682.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://aslmk.asiafreeforum.com
 
إجلاء يهود بني النضير
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» يهود الصين )يهود كايفنج(
» بنو النضير
» يهود أم جماعات وظيفية يهودية؟
» الشتات الخزري أو انتشار يهود الخزر
» الكرمشاكى (تاريخ يهود شبه جزيرة القرم)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات بستان العارفين :: المنتديات الاسلاميه :: ركن السيره النبويه :: منتدى السيره النبويه-
انتقل الى:  
المواضيع الأخيرة
» المصحف الإلكتروني
إجلاء يهود بني النضير Emptyالسبت ديسمبر 29, 2018 8:15 am من طرف ebrehim

» الحذيفى
إجلاء يهود بني النضير Emptyالسبت ديسمبر 29, 2018 8:01 am من طرف ebrehim

» يحي حوى
إجلاء يهود بني النضير Emptyالسبت ديسمبر 29, 2018 8:00 am من طرف ebrehim

» يا رسول الله هلكت
إجلاء يهود بني النضير Emptyالإثنين نوفمبر 19, 2018 10:05 pm من طرف ebrehim

» رأيت بياض خلخالها
إجلاء يهود بني النضير Emptyالإثنين نوفمبر 19, 2018 10:04 pm من طرف ebrehim

» أرم فداك أبي وأمي
إجلاء يهود بني النضير Emptyالإثنين نوفمبر 19, 2018 10:02 pm من طرف ebrehim

» ثلاث من كن فيه فهو منافق
إجلاء يهود بني النضير Emptyالإثنين نوفمبر 19, 2018 10:02 pm من طرف ebrehim

» آمنت بالله وكذبت البصر
إجلاء يهود بني النضير Emptyالإثنين نوفمبر 19, 2018 10:01 pm من طرف ebrehim

» إبليس يضع التراب على رأسه
إجلاء يهود بني النضير Emptyالإثنين نوفمبر 19, 2018 10:00 pm من طرف ebrehim

المواضيع الأكثر نشاطاً
المصالـح اليهودية
إعجاز آيات القرآن الترتيب المُحكم لأ رقام الآيات
أعداد الجماعات اليهودية وتوزُّعها في العالم حتى الوقت الحاضر
أساليب المشركين في محاربة الدعوة
نحن على ابواب شهر محرم فاكثروا فيه الصيام
[دعاء مؤثر] ياصاحبي فـي شدتي
ذو القرنين شخصية حيرت المفكرين أربعة عشر قرنا و كشف عنها
صور متحركه
شروط لا إله إلا الله
برنامج افاست avast.AV.Pro.5.1.889+الكراك مدى الحياة الخميس ديسمبر 01, 2011 2:27 am

شريط الإعلانات ||

لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ____________(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) ..........منتديات الكوثر العالميه
الساعة الأن بتوقيت القاهره)
جميع الحقوق محفوظة لـمنتديات بستان العارفين
 Powered by Aseer Al Domoo3 ®https://orchard.yoo7.com
حقوق الطبع والنشر©2011 - 2010

اهلا بك يا
عدد مساهماتك 0 وننتظر المزيد